في شوارع فلسطين.. وداعًا للطفولة
بثيابٍ رثة ووجهٍ غلفته إمارات الحزن والغموض.. وبعيونٍ زائغة تائهة تدور يُمنةً ويُسرة وبصوتٍ شاحب يستجدي الأزمنة والأمكنة بدأ الطفل أحمد "12 عامًا" في المناداة على المارة يستجديهم لشراء ما يحمل في يديه.. نادرًا ما يلتفت أحد إليه.. يرميه أحدهم بنظرة شفقة وآخر يرمي له قطعة نقود باحتراف من أجاد قذفها للمتسولين.. وأحمد لا يتوقف عن المناداة، يحمل صندوقًا ورقيًّا متهالكًا وضع فيه عددًا من أنواع البسكويت واللبان (العلكة).. وما إن تبدأ عقارب التعب في المضي حتى يُلقي أحمد بجسده المتهالك على رصيف الشارع.. عيونه مغلقة دونما نوم لا يدري أحدنا أي حلمٍ يُراوده...
جولة قصيرة وقليلٌ من الوقت حتى تتعثر بالعشرات أمثال أحمد وأنت تسير في طرقات وشوارع فلسطين، أطفال خلعوا ثوب الطفولة ذاهبين نحو الأرصفة والطرقات.. تصطدم بأحدهم فينهال عليك بعبارات تُشعرك بأنك مُلزم بالشراء والتعاطي مع ما يريدون وإلا فستلحق بك اللعنات فهذا أول يستوقفك: "أمانة تشتري... يا رب ما يحرمك من أمك ولا من أبوك..." وثاني يُردد: "اشتري.. همك ينزاح وتعبك يروح". وآخر يصيح بأن طريقك لن يكون مُيسرًا ولا سهلاً إن لم تلتفت إليه..
لا طعام ولا مدرسة
رحلة يومية بعذابات قاسية ومهينة.. في زمهرير الشتاء وبرد كانون.. في حر الصيف ولهيب آب.. في النهار.. في الليل في كل مكان تجدهم؛ بعضهم يحمل الحلويات والبسكويت وآخر يبيع المرطبات، وثالث ينادي على المناديل الورقية ورابع يحمل السجائر وعاشر يصطف مع ثلة رفعت أناملها الغضة بالمناديل لتمسح نوافذ السيارات!!
لم يكن من السهل أن تُقنع أحدهم بأنك بصدد عمل موضوع صحفي، فالاقتراب منهم حاملاً هويتك الصحفية يعني سيرك على حقل من الألغام.. ولأننا بحاجة إلى أصواتهم ونقل همهم اقتربنا منهم بهدوء وحذر نلتقط صورهم من بعيد.. ونحدثهم بصفة الإنسان من قريب.
بالقرب من إحدى إشارات المرور أخذ خالد (11 عامًا) يتنقل من سيارة إلى أخرى يعرض بضاعته ويلح على السائقين والركاب بنبرات تُمطر ألمًا أخبرني أن الفقر دفعه للشارع: "أبي عاطل عن العمل.. وما يحصل عليه من هنا وهناك لا يكفي قوت يومنا.. تركت المدرسة...".
أما رامي تسع سنوات الذي أخذ يقفز من أجل مسح زجاج السيارات التي تتوقف عند الإشارات الضوئية فحدثني بارتباك: "لا أحد يساعدنا.. مات والدي وأمي مريضة.. والأوضاع في البيت غاية في السوء...".
ولكن كيف؟؟
سالم (13) عامًا اعترف بأن المشاكل الأسرية دفعته للأرصفة: "لم أعد أطيق البيت.. خرجت للشارع.. لا أحد يسأل عني.. أمسح زجاج السيارات.." وببراءة يستدرك: "أحيانًا أتسلى.. المهم ألا أذهب للبيت أو المدرسة".
وفي لقاءاتهم أكد هؤلاء الأطفال أنهم يتعرضون للإهانة ولألفاظ السب والشتم ويروي سالم قائلاً: "الكثير يظن أننا نفتعل الخروج للشارع.. فتقابلنا نظرات الازدراء". وبدوره تساءل رامي: "نتعرض للإهانات وقد يصل الأمر إلى حد الضرب من قبل البعض.. فهل يُعقل أننا نهوى هذا المشهد.. كلنا يتوق إلى مقعد الدراسة وإلى المرح، ولكن كيف؟!".
عادل طفل في العاشرة من عمره يبيع المناديل الورقية تمنى أن يعيش كباقي أطفال العالم حياة هادئة وهانئة دونما خوف ولا قلق: "أريد أن أعيش طفولتي.. وأعود لمدرستي.. أكره الشارع والمكوث فيه.. ولكن لا خيار أمامي".
العمل.. هو السبب
ظاهرة أطفال الشوارع في فلسطين موجودة وكافة المؤشرات والدلائل على أرض الواقع تؤكد أن الظاهرة آخذة في الازدياد والتفاقم، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا توجد إحصاءات دقيقة أو بيانات تشير إلى حجم هذه الظاهرة، ويرى المختصون أن غياب الإحصائيات سببها تداخل المفاهيم والتعريفات حول من هو طفل الشارع؟.
ولكن مراكز الإحصاء الفلسطينية أشارت في إحصائياتها المختلفة إلى الأطفال البائعين في الشوارع في توصيف لهذه الظاهرة، مشددة على أن الأعداد في ازدياد وفي آخر إحصائية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فقد بيَّن أن نسبة الأطفال العاملين في فلسطين وصلت إلى 6.2% بين الأفراد العاملين.
كما أشارت الإحصائية إلى أن عدد الأطفال العاملين في الأراضي الفلسطينية بلغ40.136 طفلاً، أي ما نسبته 3.1% من إجمالي الأطفال، بواقع 3.8% في الضفة الغربية و1.9% في قطاع غزة.
وأظهرت النتائج أن غالبية عمالة الأطفال تتركز في الفئة العمرية الأقل من 15 سنة، حيث بلغ عددهم 18.024 طفلاً.
وتشير العديد من الدراسات إلى أن الفقر والحاجة الاقتصادية هما السبب الرئيسي في انخراط الأطفال في الشوارع ظنًّا منهم أن كسب بعض المال يزيد من دخل الأسرة ويُحافظ على وجودها وبقائها على قيد الحياة، وهو الأمر الذي يدحضه خبراء الاقتصاد، حيث يؤكدون أن بقاء الأطفال في الشوارع وحرمانهم من فرص التعليم وضياع مستقبلهم يزيد من فقر الأسرة، وبحسب آخر الإحصائيات فإن معدلات الفقر ارتفعت في الأراضي الفلسطينية وازدادت لتصل إلى 62%.
الخطير في مؤشر الإحصائيات أنها أظهرت أنه كلما صغر سن الطفل ارتفعت نسبة العمالة (الخروج للشارع)، حيث بلغت النسبة للفئة 5 - 9 سنوات 64.4% مقابل 62.3% و35.9% للفئات العمرية 10 - 14 سنة و15 - 17 سنة على التوالي.
(الامبراطور)